جديد الفتاوى
أرسل إلي أخ من الرياض في المملكة العربية السعودية، يطلب مني إجابة عن سؤالين اثنين، ويرجو تسجيل الإجابة عنهما في هذا الموقع.
أما سؤاله الأول فعن علاقة العقل بالنقل.
وأقول في الجواب: إن العقل أداة للوثوق بصحة ورود النقل، ثم هو أداة لفهم مضمونه، وإدراك المعنى الذي يدل عليه. فهو كالمصباح إذ ينير معالم الطريق أمام السائر.
وهذا يعني أن العقل خادم للنقل الذي نعني به في هذا المقام الوحي الإلهي الموجه إلى الرسل والأنبياء في الأرض.
غير أن المهم معرفة المعنى المراد بكلمة ((العقل)) ولعل أدق تعريف له أنه نور يقذفه الله في دماغ الإنسان يدرك به حقائق الأشياء ويميز به الحق من الباطل.
وقد اهتم العلماء بالعمل على بيان الضوابط التي تميز العقل الذي به يتم إدراك الحقائق عن الرغائب النفسية التي من شأنها الاستجابة للملاذّ والأهواء الذاتية. فوضعوا للمدارك العقلية منهجاً يضمن الالتزامُ به بلوغَ الحقائق صافية عن شوائب الأهواء، والرعونات الذاتية.
ومن أهم ما يتضمنه هذا المنهج أن العقل إذا وصل من السير، طبق العمليات التي بها يتم إدراك الحقائق، إلى الحد الذي لا يتأتى له تجاوزه، ولا يتمكن من الخوض فيما وراءه، كان لا بدّ له عندئذ (بحكم من طبيعة العقل ذاته) أن يستسلم للخبر الصادق الذي من شأن العقل (من حيث هو جنس) أن يثق به ويطمئن إليه. مثال ذلك الأحداث التي يختزنها الماضي السحيق، والتي لم يبق بينها وبين ضياء العقل من علاقة تعين على النظر والبحث فيها. ومثاله أيضاً أحداث المستقبل البعيد الذي حجبت دخائله عن العقل برداء الغيب.
فإن العقل يتطلب في هذه الحالة من يخبره بصدق عن تلك المغيبيّات المحجوبة عنه بظلمات الماضي السحيق أو المستقبل البعيد.
ولا يتمثل الخبر الصادق الذي ينبغي أن يثق به العقل إلا بالوحي الإلهي الذي أنجد الله به العقل الإنساني عن طريق الرسل والأنبياء.
فإذا تلقى العقل أنباء الوحي الإلهي تكشف له ما تنطوي عليه غيوب الماضي والمستقبل، أصبح دور العقل عندئذ العمل على إدراك ما تتضمنه تلك الأنباء عن طريق ضوابط اللغة وقواعد الدلالات. ولا يسع العقل بعد ذلك إلا الانقياد لما تقتضيه تلك الأنباء والاستجابة للوصايا التي يدلي بها مرسل تلك الأنباء.. وهو الله عز وجل..
وحصيلة هذا الموجز الذي أذكره لك هو المراد بما أجمع عليه علماء هذا الشأن من أن صحيح المنقول متفق دائماً مع صريح المعقول، أي متفق مع العقل الصافي عن شوائب الأهواء والرغائب النفسية.
ثم إن لهذا الموجز الذي أرجو أن لا يكون مخلاًّ، تفصيلاً طويل الذيل، يدخل فيما يسمونه بمنهج البحث عن الحقيقة، غير أنه لا مجال للدخول في سرده في مثل هذا المقام.
وأما السؤال الثاني فعن ذاك الذي يقوله بعضهم من أن الأشاعرة والماتريدية يقتصرون من ذكر صفات الكمال لله تعالى على سبع صفات، يعتمدون فيها على دليل العقل وحده، وذلك على حد تعبير السائل، ونقله عن أولئك البعض.
فالجواب: أنه لا الأشاعرة ولا الماتريدية ولا أي من علماء المذاهب الإسلامية يحصرون صفات الكمال لله تعالى في سبع صفات. بل الكل مجمعون في مراجعهم الكثيرة المتداولة على أن الله متصف بجميع صفات الكمال، منزّه عن جميع صفات النقصان. ثم إنهم ينصون على عشرين صفة ثابتة لله تعالى (لا على سبع صفات فقط) مقسومة أربعة أقسام، وهي: أولاً: الصفة النفسية أو الذاتية وهي صفة الوجود، ثانياً: الصفات السلبية، وهي تلك التي تتضمن سلب ما لا يليق من صفات النقص عن الذات الإلهية جل جلاله. ثالثاً: صفات المعاني وهي سبع صفات ، رابعاً: الصفات المعنوية وهي سبع صفات أيضاً. فهذه الصفات العشرون هي أمهات صفات الكمال الثابتة لله عز وجل.
والدليل الذي يعتمد عليه علماء العقيدة الإسلامية، أياً كانوا، في إثبات هذه الصفات لله تعالى، إنما هو دليل النقل الصريح المثبت في كتاب الله تعالى. ويأتي دور العقل مؤيداً وتابعاً لكل ما أثبته الله تعالى في محكم كتابه، أو بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح الوارد من سنته.
وليس في ذكر هذه الصفات العشرين التي أثبتها الله تعالى لذاته ما يعني عدم اتصافه جل جلاله بغيرها من صفات الكمال. بل هي أمهات صفات الكمال لله عز وجل، يستتبع كلٌّ منها جملة من صفات الألوهية له عز وجل. وتفصيل هذا الموجز مثبت في أماكنه من كتب العقيدة الإسلامية، التي دوّنها أهل السنة والجماعة.