من كتاب الفقه على المذاهب الاربعة لعبد الرحمن الجزيري
شروط الرضاع
يشترط لتحقيق الرضاع الشرعي الموجب لتحريم النكاح، كما توجبه القرابة والمصاهرة، شروط: بعضها يتعلق بالمرضعة، وبعضها يتعلق بالرضيع، وبعضها يتعلق بلبن الرضاعة، وفيها كلها اختلاف المذاهب (1)
--------------------------
(1) (الحنفية - قالوا: يشترط في المرضعة شرطان: أحدهما أن تكون امرأة آدمية، فلو نزل اللبن لرجل ورضعه طفل فإنه لا يعتبر رضاعاً شرعياً، وكذلك إذا نزل لخنثى واضح الذكورة، أما الخنثى المشكل الذي لم يتبين أمره فينظر في لبنه النساء، فإن قلن: إنه غزير وأنه لا يكون هذا اللبن إلا للأنثى فإنه يتعلق به التحريم، وإن قلن: إنه ليس بلبن أنثى فإنه لا يتعلق به شيء، ومثل ذلك ما إذا رضع طفل وطفلة ثدي بهيمة فإنه لا يتعلق به التحريم. ثانيهما: أن تكون بنت تسع سنين فما فوق، فلو نزل اللبن لصغيرة دون تسع سنين ورضعها طفل فإنه لا يعتبر رضاعاً شرعياً ولا يتعلق به التحريم، ولا يشترط في المرضعة أن تكون حية فلو ماتت امرأة وبجانبها طفل فالتقم ثديها ورضع منه فإنه يتعلق بالتحريم وكذا لا يشترط أن تكون ثيباً موطوءة، بل إذا نزل اللبن للبكر التي لم تتزوج فأرضعت صبياً صارت أماً له وثبتت جميع أحكام الرضاع بينهما ومثل ذلك ما إذا كانت عجوزاً يئست من الحيض والولادة على أنه إذا نزل للبكر ماء أصفر، فإنه لا يثبت به التحريم، أما إذا كانت ثيباً وتغير لبن رضاعها فصار لونه أصفر، فإنه لا يثبت بها التحريم، وذلك لأنه لبن تغير لونه ويشترط في الرضيع أن يكون لم يتجاوز حولين على المفتى به سنتين ونصف على قول الإمام المتقدم. ويشترط قي اللبن شروط: الأول أن يكون مائعاً بحيث يصح أن يقال فيه: ان الصبي قد رضعه أما إذا عمل جبناً، أو قشدة، أو رائباً. أو نحو ذلك وتناوله الصبي فإنه لا يتعلق به التحريم، لأن اسم الرضاع لا يقع عليه في هذه الحالة، فلا يقال ان الصبي رضع هذا اللبن، وإنما يقال له أكله. الثاني: أن يصل إلى جوف الطفل بواسطة مص الثدي أو بصبه في حلقه، ويقال له: وجور - بفتح الواو - أو بصبه في الأنف ويقال له: سعوط، كرسول، فإذا وصل اللبن إلى الجوف بالصب في الحلق أو بالصب في الأنف ترتب عليه التحريم، سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولو قطرة واحدة فلا بد من وصوله إلى الجوف بطريق الصب في الحلق أو الصب في الأنف لا غير فلو وصل اللبن بالتقطير في الأذن بواسطة الحقنة في القبل أو في الدبر فإنه لا يعتبر، وقال محمد: إذا وصل بواسطة الحقنة فإنه يعتبر. الشرط الثالث: أن يصل اللبن إلى الجوف في مدة الرضاع المتقدم، فإذا رضع في أثنائها ولو قطرة وصلت إلى جوفه فإنه يعتبر ولو كان فطيماً مستغنياً عن الطعام فالمدار على التحريم هو أن يرضع في المدة. الشرط الرابع: أن يكون وصوله يقيناً، فلو التقم الحلمة، ولم يعلم هل وصل لبن إلى جوفه أو لا، فإنه يعتبر لأن المانع شك، فلو أعطت المرأة ثديها لطفل، وقالت أن ثديها فيه لبن فإنها تصدق
الشرط الخامس: أن لا يختلط اللبن بالطعام. فإن نزل لبن امرأة في طعام ومسته النار فأنضجته حتى تغير وأكل منه الصبي فإنه لا يعتبر. وكذلك إذا اختلط لبن بجامد لم تمسه النار لأنه خرج عن كونه مائعاً يتعلق به الرضاع، أما إذا خلط بمائع كأن خلط لبن الآدمي بلبن شاة فإنه ينظر، فإن كان لبن الآدمي غالباً فإنه يعتبر وتثبت به الحرمة، وإلا فلا، ومثل ذلك ما إذا خلط بماء، أو دواء أو نحو ذلك، ومعنى كونه غالباً هو أن يرى منه طعمه أو لونه وإن استويا، فإنه يعتبر ويتعلق به التحريم، وهذه الصورة نادرة الوقوع.
المالكية - قالوا: يشترط في المرضعة أن تكون امرأة فلو كانت بهيمة فإن الرضاع منها لا يعتبر وكذا إذا نزل اللبن لرجل فإنه لا يحرم ولو كان كثيراً، فإن كان لبن خنثى مشكل فإنه ينشر الحرمة على الظاهر، ولا يشترط أن تكون المرضعة على قيد الحياة، بل إذا ماتت ودب طفل وارتضع ثديها وعلم أن الذي بثديها لبن فإنه يعتبر وكذا إن شك فيه هل هو لبن أو لا فإنه ينشر الحرمة، وكذا لا يشترط أن تكون كبيرة، بل إذا نزل اللبن للصغيرة التي لا تطيق الوطء فرضعها طفل فإنه يعتبر، ومثل ذلك ما إذا كانت عجوزاً قعدت عن الحبل والولادة ويشترط في الرضيع أن يكون صغيراً لم يتجاوز حولين وشهرين على المشهور، فإذا رضع بعد هذه المدة فإن رضاعه لا يعتبر باتفاق، أما إذا رضع في أثناء المدة ففيه التفصيل المتقدم، ويشترط في اللبن شروط: أحدها أن يكون لونه لون لبن فإذا كان أصفر أو أحمر فإنه لا يعتبر. ثانيها: أن يصل إلى جوف الصبي بمص الثدي أو بصب اللبن في حلقه، ويقال له: وجور، أو بصبه في أنفه، ويقال له سعوط، ومتى وصل اللبن إلى جوفه من الفم فإنه يعتبر وينشر الحرمة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، ولو قدر مصة واحدة، أما إذا وصل من الدبر بواسطة الحقنة فإنه يحرم إذا كان يكفي لغذاء الطفل وقت وصوله ولو احتاج إلى غذاء بعد ذلك بزمن قريب ولا يعتبر إذا وصل إلى الجوف من الأذن أو العين أو مسام الرأس، ولو تحقق وصوله إلى الجوف. ثالثها: أن لا يخلط لبن المرأة بغيره من طعام أو شراب أو دواء، فإن خلط وكان غيره غالباً عليه بحيث قد استهلك ولم يبق له طعام فإنه لا يعتبر أما إذا كان هو غالباً أو مساوياً فإنه يعتبر وينشر الحرمة وإذا عمل لبن المرأة جبناً أو سمناً وأخذه الطفل فإنه ينشر الحرمة على الظاهر.
الشافعية - قالوا: يشترط في المرضعة شروط: أحدها أن تكون أنثى آدمية، فلو رضع طفل وطفلة من ثدي بهيمة فإن رضاعها لا يعتبر ولا يوجب التحريم بينهما وكذا لو رضع طفل من لبن رجل أو لبن خنثى مشكل لم يتبين كونه امرأة فإن رضاعه لا يتعلق به تحريم، ولكن إذا رضعت طفلة لبن رجل أو خنثى مشكل ثم تبين أنه رجل فإنه يكره لهما التزوج من التي رضعت منهما. ثانيهما: أن تكون المرضعة على قيد الحياة، فإذا دب الطفل إلى ميتة ورضع من ثديها فإن رضاعه لا يعتبر ولا ينشر الحرمة، ومثل الميتة من كادت تفارق الحياة ولم يبق فيها سوى حركة مذبوح. ثالثها: أن تكون المرضعة سن تسع سنين قمرية تقريبية، وهذه السن هي سن الحيض، فيعتبر الرضاع منها ولو لم يحكم ببلوغها لأن سن الحيض يجعلها تحتمل أن تلد.
والحاصل أن الشافعية يشترطون في المرضع أن تبلغ تسع سنين تقريباً، فلا يضر نقصها بما يسع الحيض والطهر منه، ولو لم تحض بالفعل، وقد يرد على هذا أن اللبن إنما ينشأ عن الولادة، والتي لم تحض بالفعل لا يتصور منها ولادة، ومقتضى هذا أن لبنها لا يحرم، وأجيب هذا بأن بلوغ هذا السن - وهو سن الحيض - يترتب عليه احتمال كونها تحيض وتحبل وتلد، وهذا الاحتمال كاف في اعتبار اللبن الذي نزل في للصغيرة في هذا السن، وذلك لأن التحريم بالرضاع تابع للتحريم بالنسب لأن اللبن جزء من المرضعة، وهو ناشئ بسبب الولد المتولد من مني الرجل ومني المرأة، فإذا امتصه الصبي كان كأنه جزء من المرأة والرجل، فاللبن نزل منزلة المني الذي ثبت به نسب الولد فثبوت التحريم بالرضاع تابع لثبوت التحريم بالنسب، ومعلوم أن النسب يثبت بالاحتمال، فكذلك فرعه المشابه له يكفي في ثبوته الاحتمال، ولهذا لا يشترط أن تكون المرضعة ثيباً، فلو كانت بكراً ونزل لها اللبن في هذه السن فإنه يعتبر ويحرم، فلا يشترط أن يكون اللبن ينشأ عن الحبل بالفعل، فإذا كانت في سن لا تحتمل فيه الولادة فإن لبنها لا يعتبر ولا يحرم.
ويشترط في الرضيع أن يكون حياً، فلو فرض وصب في حلق طفل ميت لبن امرأة فإنه لا يعتبر، وإن يكون صغيراً لم يتجاوز الحولين، فإن تجاوزهما، ولو بلحظة، فإن رضاعه لا يحرم، وإذا شك في أنه تجاوز الحولين أو لا فإنه لا يحرم، لأن الشك في سبب التحريم يسقط التحريم، فإذا رضع الطفل أربع رضعات وفي أول الرضعة الخامسة تم حولان يقيناً، وهو يرضعها فإنه لا يعتبر، وما مضى من الرضعات الأربع يلغى خلافاً للحنابلة في هذه الحالة.
ويشترط في اللبن شرطان: أحدهما يتعلق بكميته ومقداره، وثانيهما يتعلق بحالته وكيفية وصوله إلى جوف الصبي. فأما الأول، فإنه يشترط أن يرضع الطفل من المرضعة خمس مرات يقيناً، بحيث لو شك في أنه رضع خمس مرات أو لا، فإنه لا يعتبر، ثم إن الرضعة لا تحسب إلا إذا عدت في العرف رضعة كاملة، بحيث يتناول الطفل الثدي ولا ينصرف عنه إلا لضرورة تنفس، أو بلع ما في فمه، أو الانتقال من ثدي إلى ثدي آخر، أما إذا قطعه ولم يعد إليه فإنها تحسب رضعة، ولو لم يأخذ سوى مصة واحدة، وكذا إذا قطعته المرضعة ولم تعد إليه، أما إذا قطعته لشغل خفيف ولو عادت إليه سريعاً فإنها تحسب رضعة واحدة، وقد وافق الشافعية في هذا العدد الحنابلة، وإن خالفوهم في بعض التفصيل المذكور، كما ستعرفه، وأما الحنفية. والمالكية فإنهم خالفوا هذا ولم يشترطوا عدداً، بل قالوا: كل ما وصل إلى جوف الصبي من لبن المرضعة ولو قليلاً يوجب التحريم، وقد عرفت اختلافهم في التفصيل المتقدم.
فيتحصل من هذا أن الشافعية والحنابلة يقولون: إن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان خمس مرات، والمالكية، والحنفية يقولون: إن الرضاع يحرم مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً ولو قطرة.
وقد استدل الشافعية، والحنابلة بما رواه مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان فيما أنزل اللّه في القرآن أن عشر رضعات معلومات يحرمن - فنسخن بخمس معلومات - فتوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما يقرأ من القرآن، وأيضاً روى مسلم" لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان".
ويؤخذ من كتب الشافعية، والحنابلة أنهم فهموا من خبر عائشة الأول ما هو ظاهر منه، وهو أنه كان من بين آي القرآن الحكيم آية - عشر رضعات معلومات يحرمن ومعنى معلومات متحققات لا شك فيهن، ومعنى يحرمن يوجبن التحريم بين المرضعة وزوجها، وبين الرضيع في الزوجية على الوجه السابق، ثم نسخت هذه الآية في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم لفظاً ومعنى بآية أخرى، وهي - خمس معلومات يحرمن - فبعد أن كانت الرضعات المحرمات عشراً صارت خمساً فقط واستمر العمل بهذا، ثم رفع لفظ - خمس رضعات يحرمن - من القرآن قبيل وفاة الرسول عليه السلام وبقي العمل بحكمه، فمعنى، قول عائشة: فتوفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، يذكر حكمها على أنها كانت آية في القرآن، لا أنه كان يتلى قرآناً بعد وفاة الرسول عليه السلام، وعلى فرض أنه كان يتلى فيكون ذلك بالنسبة لمن لم يبلغه النسخ.
ويرد على هذا أمران: أحدهما أن المسلمين قد أجمعوا على أن القرآن هو ما تواتر نقله عن رسول اللّه عن رب العزة، فكيف يمكن الحكم بكون هذا قرآناً، خصوصاً قد صرح بعض أئمة المسلمين بأنه لا يجوز الحكم على كتاب اللّه المتواتر بما ليس بمتواتر، وعلى هذا فمن المشكل الواضح ما يذكره المحدثون من روايات الآحاد المشتملة على أن آية كذا كانت قرآناً ونسخت على أن مثل هذه الروايات قد مهدت لأعداء الإسلام إدخال ما يوجب الشك في كتاب اللّه من الروايات الفاسدة، فمن ذلك ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين ليستا من كتاب اللّه، فإن معنى هذا التشكيك في كتاب اللّه المتواتر كلمة كلمة وحرفاً حرفاً، ولهذا جزم الفخر الرازي بكذب هذه الرواية، ومن ذلك ما قيل من أن آية القنوت كانت موجودة في مصحف أبي ثم سقطت.
فهذا وأمثاله من الروايات التي فيها الحكم على القرآن المتواتر بأخبار الآحاد، فضلاً عن كونه ضاراً بالدين فيه تناقض ظاهر. ثانيهما: ليس في حديث عائشة ما يدل على نسخ خمس رضعات، فلماذا لا تكون قد سقطت، كما يقول أعداء الدين؟ ومع تسليم أن فيه ما يدل، فما فائدة نسخ اللفظ مع بقاء حكمه؟ ومع تسليم أن له فائدة، فما هو الدليل الذي يدل على أن اللفظ قد نسخ وبقي حكمه؟.
وقد أجيب عن الأول بأنه لم يقل أحد أن خبر عائشة يفيد قرآنية هذه الكلمات فتعطى حكم القرآن، وإنما الذي يفيده خبر عائشة ظن أن هذا الحكم كان موجوداً في القرآن، وهذا الظن كاف في إثبات الحكم الفقهي.
ثم إن هناك فرقاً بين ما روي عن ابن مسعود من كون المعوذتين ليستا من القرآن وبين خبر عائشة الموجود معنا، فإن الأول فيه نفي للقرآن المتواتر يقيناً، ومن ينكر شيئاً من القرآن المتواتر يقيناً فإنه يخرج عن الدين، فيجب تكذيب ما روي عن ابن مسعود من إنكار المعوذتين تكذيباً باتاً وتكذيب كل رواة مماثلة لها، أما خبر عائشة فإنه يفيد أن هذا قرآن ونسخ في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلا يصح أن يعطى حكم القرآن على كل حال، ومع ذلك فإن الخبر لا يفيد إلا الظن، ففي كونه قرآناً لا يضر، وقد يقال: إنه مع وجاهة هذا الجواب لا يزال الإشكال قائماً وهو أنه إذا صح نفي كونه قرآناً فلا يصح الاحتجاج به، لأن الاستدلال به قائم على كونه قرآناً فمتى نفيناّ كونه قرآناً فقد انتفى الحكم الدال عليه، فالمعترض يقول: إنكم تقولون: إن هذا الحكم كان موجوداً في القرآن، وذكرتم نصه بآية قلتم: إنها كانت في القرآن، والفرض أن القرآن هو ما ثبت بالتواتر، وكل ما لا يثبت بالتواتر لا يكون قرآناً، فهذا ليس بقرآن، ومتى ثبت أنه ليس بقرآن فإنه لا يصح الاحتجاج به، فإن قلتم: إنه لا يلزم من انتفاء كونه قرآناً انتفاء الحكم، لأنه يكون من قبيل الحديث الثابت بخبر الآحاد، قلنا: وهذا أيضاً لا يصح لأن عائشة لم تروه على أنه حديث، وعلى فرض أنها روته كذلك فإنكم قلتم: إنه صح نفيه: فيقال: إن خمس رضعات يحرمن ليست بقرآن ومتى صح ذلك فإن الحكم الذي دل عليه اللفظ ينتفي طبعاً، ولا يقال أيضاً: إن خبر عائشة يفيد أنه كان قرآناً قطعاً في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم، وليس بقرآن بالنسبة لنا لعدم تواتره، لأنا نقول: إن خبر عائشة لا يفيد إلا الظن فمن أين يأتي القطع؟
(يتبع...)