صلاح الدين الأيوبي
هو أبو المُظَفَّر يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان، صلاح الدين، الملقب بالملك الناصر، وأصله من الأكراد من قرية "دوِين" في شرقي أذربيجان.
ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة من الهجرة (532هـ)، سبع وثلاثين ومائة وألف للميلاد (1137م) في قلعة تَكْريت التي كان والده قائمًا عليها في عهد السلطان مسعود بن ملكشاه. ولم يقض صلاح الدين من عمره في هذه القلعة سوى ليلة واحدة؛ إذ انتقل أبوه حينها بأهله إلى الموصل حيث أقام عامين، ثم انتقل إلى بعلبك عام أربعة وثلاثين وخمسمائة من الهجرة (534هـ) وظل بها حتى بلغ صلاح الدين التاسعة من عمره وتعلم القراءة والكتابة، وحُبِّب إلى نفسه الجهاد في سبيل الله.
وكان عمه "أسد الدين شيركوه" قائد قواد حلب، وأبوه قائدَ قواد دمشق، ثم عينه "نور الدين محمود" حاكمًا لدمشق، فشب صلاح الدين بين القواد والفرسان ، ونال من خصالهم الكثير، هذا فضلاً عن تفقهه في دمشق، وتأدّبه ، وروايته الحديث.
أحوال عصره:
دخل صلاح الدين مع أبيه نجم الدين أيوب وعمِّه أسد الدين شِيرْكُوَهْ في خدمة السلطان القوي نور الدين محمود بن عماد الدين زَنْكِي، في عصر أمْسَتْ فيه دولة الإسلام دويلات عديدة؛ وفي كل دولة ملوك وأمراء لهم سِيَرٌ عجيبة، كما كان للصليبيين في أنطاكيّة إمارة، وفي القدس مملكة، وفي طرابلس والرُّها ويافا سطوة عقب موجات من الحروب الصليبية، وكان نور الدين محمود رجلاً صُلْبًا يتولى قيادة المسلمين في مواجهة الصليبيين.
وانطلاقًا من الرغبة في توحيد المسلمين وجمع شتاتهم، شرع نور الدين في ضم بلاد مجاورة إلى سلطانه بالقوة، لنُزُوع أمرائها إلى الاستقلال والتشتت؛ فسيَّر رَجُلَه أسدَ الدين شِيرْكُوَه عَمَّ صلاح الدين بجيش إلى مصر عام 955هـ ـ 4611م لإدخالها في طاعته، وكان صلاح الدين أحد رجال جيش عمِّه، وعمره يومئذ لا يتجاوز السابعة والعشرين.
أعماله:
بدأ صلاح الدين جنديا في جيوش الزَّنكيين يسير مع أبيه وعمه، ثم كان سندا كبيرا لعمه أسد الدين شيركوه في مصر، خاصة في مواجهة الوزير الفاطمي "شاور" الذي استعان بالصليبيين على المسلمين. وبعد وفاة أسد الدين انتقلت الوزارة في مصر إلى ابن أخيه صلاح الدين، الذي قام بواحد من أهم أعماله حين ألغى الخلافة الفاطمية في مصر، ودعا على المنابر للعباسيين ولنور الدين محمود.
ثم توفي نور الدين عام 569هـ، فلاحَتْ بوادر التنازع والفُرقة بين المسلمين، وطمع الأمراء والقواد في المُلْك، ووجدها الصليبيون فرصة للسيطرة على الشام كله، فأرسلوا أساطيلهم من جزيرة صقلية إلى الإسكندرية ودمياط؛ لعزل مصر عن الشام، لكن صلاح الدين أغرق سفنَهم وأمعن في قتلهم، وأبطل خُططهم.
واستُدْعِيَ لإعادة الاستقرار إلى بلاد الشام، فزحف برجاله إلى دمشق وسيطر عليها عام 570هـ، وامتد سلطانُه من الشام شرقًا إلى أقصى غرب مصر، وعمرُه يومئذ يناهز الأربعين، ثم استولى على حماة وبعلبك وحمص وحلب التي صالح أهلَها، ثم نقضوا العهد وتحالفوا مع الصليبيين، فألحق بهم هزيمة نكراء، وبذلك قامت الدولة الأيوبية التي دانت بالولاء للخلافة العباسية.
امتد سلطانُ صلاحِ الدين من مصر إلى الشام، فراح يحاصر الصليبيين، فزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وظل ممتطيًا جوادَه مرابطًا ومجاهدا في سبيل الله، واسْتَنْفَرَ أمراءَ جميعِ البلاد الإسلامية لحشد جيوشها خلفَه، وكتب إلى قادة الموصل، وديار الجزيرة، وإربل، وغيرها. وخرج هو من دمشق أواخر المحرم سنة 385هـ 7811م، وتجمعت جيوش الشام تحت قيادة ابنه الملك الأفضل عليّ، ثم توجه هو إلى بر طريق الحجاج إلى مكة لحمايتهم ومنع الصليبيين من الإغارة عليهم، ففر الصليبيون لما علموا بذلك.
وتحت قيادة الناصر صلاح الدين احتشد جيشٌ قوامه اثنا عشر ألف مقاتل من الفرسان، عدا المتطوعة والمشاة، في مواجهة ثلاثة وستين ألفًا من الصليبيين، على مقدمتهم كونت طرابلس "ريموند"، وتولَّى الملكُ "جاي" القلبَ، وقادَ المؤخرةَ "رينالد شاتيون"، المعروف بـ"أرناط".
وكان اللقاء الصعب في حطين، والذي حُسمت نتيجته تماما لصالح المسلمين، حتى أسروا ملوك الصليبيين. وعفا صلاح الدين عن هؤلاء الملوك جميعا، سوى "أرناط" الذي تعرَّض لقافلة من الحجاج المسلمين وقتلهم ونهبهم وسب النبي - صلى الله عليه وسلم، فقتله صلاح الدين بيده.
واستسلمت قلعة طبريّة للمسلمين في اليوم التالي: السادس والعشرين من ربيع الآخر عام 385هـ، ثم استولت قوات المسلمين على عكا، وحُررت صيدا دون قتال، ثم بيروت، ثم دخلوا عسقلان، وتبع ذلك تحرير غزة، وكان جملة ما افتتحه صلاح الدين في هذه الفترة الوجيزة خمسين بلدًا كبارًا، كل بلد له مُقاتِلَةٌ وقلعةٌ ومَنعَةٌ، وغَنِمَ جيش المسلمين غنائم عظيمة وسَبَوْا خلقًا كثيرًا..
مواقفه :
للسلطان الناصر مواقف عديدة ومشهورة مملوءة بالرحمة والعفو عند المقدرة، فبعد انتصار حطين عفا عن ملوكهم، ورد زوجاتهم إليهم، وقصته معروفة في بحثه عن طفل فقدته امرأة صليبية في الحرب، فرده إليها سالما معافى.
وقد أجبرت هذه المواقف أعداء صلاح الدين أنفسهم على الإعجاب به وتقديره.
صلته بالقدس :
إذا كان كثيرٌ من القادة والعظماء وثيقي الصلة بالقدس، فإن صلاح الدين من أوثقهم بها صلةً، وحسبُه أنه أول محرر لها بعد عقود من خضوعها لسلطان الصليبيين، إلى جانب بسالته في الحفاظ على النصر المبين الذي حققه باستردادها، حين تصدى لجيوش الحملة الصليبية الثالثة، واستطاع مع قلة ما وصله من مدد من الأمصار الإسلامية، أن يصمد في وجه الطوفان الصليبيّ الزاحف.
ولصلاح الدين جهود كبيرة في العمران داخل القدس، فقد رمم مساجدها، ورفع التشويهات التي أدخلها الصليبيون على المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، كما بنى بالحرم "المدرسة الصلاحية" لنشر علوم الشرع، وأقام بعض الربط والتكايا لرعاية الفقراء.
وفاته :
ردَّ صلاح الدين جحافل الصليبيين عن القدس، وكتب بينه وبينهم كتاب صلح فيما سمي بصلح الرملة، حفظ للمسلمين الأرض المقدسة، ثم خرج إلى دمشق، واستهلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة من الهجرة (589هـ) وهو في غاية الصحة والسلامة، ثم اعْتَرَتْهُ الحُمّى، واشتدت به الحالُ ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر، فاستَدعى شيخًا قارئا؛ ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقِّنه الشهادة إذا حضره أجله، فحضر الشيخ، وظل يقرأ القرآن حتى أسلم صلاحُ الدين روحَه إلى ربه ـ سبحانه وتعالى ـ مبتسمًا متهلل الوجه، والقرآن مِلْءُ سمعِه وقلبِه.
وقد حَضَرَهُ أولادُه، وكانوا سبعةَ عشرَ ذكرًا ، وأنثى واحدة.
وغسَّله الفقيه الدولعي خطيب البلد، وكفنه وجهزه القاضي الفاضل، وأمَّ الناسَ عليه القاضي محيي الدين بنُ الزكيّ، ودُفن في داره بالقلعة المنصورة بدمشق، وكان له من العمر سبعٌ وخمسون سنة.