"معرّة النعمان" أقدم بكثير مما جادت به قرائح المؤرخين العرب، عاشت حضارات سورية من الرافدين حتى الساحل مثل غيرها، ودفعت ضريبة الحرق والهدم أكثر من غيرها، لأنها غير محصّنة ومفتوحة على كل الجهات. ولم تملك يوماً قدرات خاصة تدافع بها عن نفسها، والثقافة السائدة منذ ثلاثة آلاف سنة على الأقل هي الآرامية السريانية، وهي لغة المنطقة، وما تزال بقاياها في لغتنا المحكيّة، فنحن لا نقول القمح ولكن نقول (الحنطة)...
تكبير الصورة
ولا نقول أرض غير مروية ولكن نقول (أرض بعل)، لأنّ السيد "بعل" تكفل بإروائها، ونقول (شكارة) ونقول (شلف) و(شمط) و(شفى) و(كبس) و(دعك) و(جرجر) و(دلف) و(دقر) و(فرط) و(دندل) و(شحط) و(شفط) و(رصّ) و(شقف) و(جهجه) و(ملش) و(قرقش) و(كعر) و(شحل) و(طمش) و(نط) و(بشط) و(هبل) كما نقول (شربوكة، ودليلة، وكوشه، وفقيع، وزاح)، وعلى هذا المنوال الآرامي، فالآرامية تسيّدت الأفهام والمعتقدات والأسماء، هات لي أرض أو مدينة أو جب أو واد أو جبل أو نبع أو سهل أو حكمة أو حتى نبات غير آرامي في هذه المنطقة، أصلاً بات الأكاديميون في العالم يميلون للإقرار أن لا اسم في حضارة الإغريق جذره غير آرامي سرياني حتى تسمية الإغريق تسمية آرامية من (الجريق)، وهم سكان الكهوف، وباعتبار اللغة هي الفكر والفكر صدى الطبيعة فقد شكّلت الآرامية مفاهيم وآليات في النطق والتفكير وصياغة الجمل والعقائد الأرضية والسماوية بعد ذلك.
ثقافة عريقة نائمة تحت قشرة المكان، لكنها شكّلت بنى نفسية تحتمل الآلام وتصبر لشدّة ما عاقرت من أهوال وعجزت عن التصدي لها، لنتجه غرب المعرة "كفرومة، حناك، حاس، كفرنبل، معرتماتر، سفوهن، كفرعويد، فطيرة، معرزيتا، بلونس، معرتحرمة" كلها تسميات لقرى آرامية مع سهولها وآبارها ووديانها وكل ما فيها، فـ"معرتحرمة" مثلاً هي مغارة حرم إيل والحرم من الحرمة وإيل هو الإله، والمغارة متكررة كثيراً وهي من (ميعرة أو ميغرة) الآرامية السريانية وهي مكان للسكن وللدواب.
كما الأمر بالنسبة لـ"معرة النعمان" أي مغارة "النعمان والنعمان أو نعمو أو نعوم" هو أحد أسماء إله الخصب، ومنه شقائق النعمان الحمراء التي تمثل دم الإله المقتول آخر الصيف، والعائد للحياة بزخم قوي وبديع في بداية الربيع، ومن هنا تكرر اسم "النعمان" في التسميات كثيراً.
نعرف أن هناك من نسب "المعرة" (للعر أوالعار أو الشنار أو العرّة أو الجرب) أو الأمر الشنيع أو البكاء على طفل مفقود في المكان الذي كان أجمة قصب حيث وقعت الفجيعة، وكانت المعرة مكانها، إذاً هناك حدث استدعى التسمية منسوب "للنعمان ابن بشير الأنصاري" المعروف أو "النعمان بن عدي" الذي يمت له أبو العلاء بقرابة.
يقولون لنا أنّ في بلاد الشام كلّها أحد عشرة "معرة" وفي شمال سورية معرتان هذه "للنعمان" و"معرتمصرين"، وهما اختصتا بمناسبات العار والشنار من "القزويني" لـ"ابن العديم" "لناصر خسرو" وحتى "ابن بطوطة" و"الزبيدي" مؤكدين على الفجائع والأحزان والعار في الدلالة، لكن ما عسانا نفعل أو نقول إزاء معرات مبذورة حولنا مثل الفطر كيف سنفصّل لها مناسبات؟.
من باب المثال يفد على ذاكرتي بأذيال قريتي "كفرنبل" التي لا تبعد أكثر من عشر كيلومترات عن "المعرة" الأم ما لا يعدّ من المعرّات مثل: "معرجلع"، "معرتموخص"، "معرتلبا"، "معرتصين"، "معرتحرمة"، "معرزيته"، "معرتماتر"، "معرسخاتا"، "معرتحون"، وهذه الأخيرة مثلاً واد صخري على كتفيه مغائر منحوتة غرفها وأعمدتها وشرفاتها، وتطلّ على الوادي من جهتيه.
هذه الطبيعة وهذه الحضارات أورثتنا الكثير من حيث لا نعي وتفاعلت طبائعنا العنيدة مع ثقافات أسطورية مولّدة مناخاً نفسياً مطبوعاً على البساطة والزهد وشيوع مظاهر مخففة للويلات التي لم تنقطع يوماً عبر الحكم الدوارة والبكاء الشغّال والدعابة التي تقلل طعم المرارة المحيطة، صراعات ومحن تواردت على هذه المنطقة من كل جهات المعمورة، لم يوفرها أحد وكان بيده سكين عبر التاريخ البعيد والقريب، إرث طويل من الفجائع والمخاوف ونوبات الفزع المركوم بقيعان نفوسنا، هذا النواح أسلوب أو طريقة من طرق البقاء تراه في مفاهيمنا ولباس نسوتنا الأسود ولغتنا الدامعة، للنساء عندنا مهمة أخرى فوق مهام النساء هي البكاء، تبكي عنها، وعن الرجل، وتغني كما البكاء، البكاء فينا مثل العبادة نبكي ونغني، «عاليادي اليادي: وهي الوادي في الآرامية، وإذا تكدّرنا نغني «عالعين يا بو الزلف: والزلف هو الورد الأحمر على الثوب الأبيض في الآرامية» فالمعرّة والمنطقة قائمة على ثقافة آرامية في المكان والأسماء (الآدوات الزراعية: حيلان، فدّان) والآرامية شكّلت اللب الحقيقي لهذه الثقافة، وما زالت تسري في عروق المكان حتى اليوم.