[[center]color=olive]هارون الرشيد والموت
الموت لا يفرق بين كبير وصغير .. ولا غني وفقير .. ولا عبد وأمير ..
هارون الرشيد
ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنودا ..
ذاك الذي كان يرفع رأسه .. فيقول للسحابة : أمطري في الهند أو في الصين .. أو حيث
شئت .. فوالله ما تمطرين في أرض إلا وهي تحت ملكي ..
هارون الرشيد .. خرج يوما في رحلة صيد فمر برجل يقال له بهلول ..
فقال هارون : عظني يا بهلول ..
قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك ؟
قال هارون : ماتوا ..
قال : فأين قصورهم ..؟ قال : تلك قصورهم ..
قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ..
فقال بهلول : تلك قصورهم .. وهذه قبورهم .. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟
قال : صدقت .. زدني يا بهلول .. قال :
أما قصورك في الدنيا فواسعة * فليت قبرك بعد الموت يتسع
فبكى هارون وقال : زدني .. فقال :
يا أمير المؤمنين :
هب أنك ملكت كنوز كسرى وعمرت السنين فكان ماذا
أليس القبر غاية كل حي وتسأل بعده عن كل هذا ؟
قال : بلى ..
ثم رجع هارون .. وانطرح على فراشه مريضا .. ولم تمض عليه أيام حتى نزل به الموت
..
فلما حضرته الوفاة .. وعاين السكرات .. صاح .. بقواده وحجابه :
اجمعوا جيوشي .. فجاؤوا بهم .. بسيوفهم .. ودروعهم .. لا يكاد يحصي عددهم إلا الله
.. كلهم تحت قيادته وأمره ..
فلما رآهم .. بكى .. ثم قال :
يا من لا يزول ملكه .. ارحم من قد زال ملكه ..
ثم لم يزل يبكي حتى مات .. فلما مات ..
أخذ هذا الخليفة .. الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة ..
لم يصاحبه فيها وزراؤه .. ولم يساكنه ندماؤه ..
لم يدفنوا معه طعاما .. ولم يفرشوا له فراشا
ما أغنى عنه ملكه وماله ..
سل الخليفة إذ وافت منيته * أين الجنود أين الخيل والخول
أين الكنوز التي كانت مفاتحها * تنوء بالعصبة المقوين لو حملوا
أن الجيوش التي أرصدتها عددا* أين الحديد وأين البيض والأسل
لا تنكرن فما دامت على أحد * إلا أناخ عليه الموت والوجل
أما عبد الملك بن مروان ..
فإنه لما نزل به الموت ..جعل يتغشاه الكرب .. ويضيق عليه النفس .. فأمر بنوافذ
غرفته ففتحت .. فالتفت فرأى غسالا فقيرا في دكانه ..
فبكى عبد الملك ثم قل : يا ليتني كنت غسالا .. يا ليتني كنت نجارا .. يا ليتني
كنت حمالا .. يا ليتني لم أل من أمر المؤمنين شيئا .. ثم مات ..
عجبا ..
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
أين الرماة ألم تمنع بأسهمهم * لما أتتك سهام الموت تنتصل
أين الأحبة والجيران أجمعهم * أين الأطباء ما اغنوا ولا الحيل
ما ساعدك ولا واساك أقربهم * بل سلموك لها يا قبح ما فعلوا
ما بال ذكرك منسيا ومطرحا * وكلهم باقتسام المال قد شغلوا
ما بال قبرك وحشا لا أنيس به * يغشاك من جانبيه الروع والوهل
ما بال قبرك لا يأتي به أحد * ولا يمر به من بينهم رجل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا* فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
وطالما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
وطالموا شيدوا دورا لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا[/color]