كان الشيخ محي الدين ابن عربي يتحدث دوما عن عمارة القلوب وطورا عن منازل القلوب قاصدا بذلك تعمير القلوب بالمحبة و العرفان و جعلها تحلق في منازل الدلالات و الآفاق .. قابلة لأن تكون وعاء هاضما للتنوع الكبير في الرؤى و الظواهر.
كان الشيخ محي الدين كأمثاله من الرائين الباحثين عن كنه الأشياء و جواهرها يرى في الإنسان طاقة روحية كبيرة و قيمة إدراكية عالمية تتجاوز حدود المرئي و المسموع . إلى آفاق ما ورائية مداها القلوب الكبيرة المشبعة بالمعاني و الأبعاد، وعند المتنبي الذي ركبه شيطان الشعر نظرة تماهي بين منازل القلوب بوصفها شعورا ثم بوصفها انتماء للمكان .. فالمنزل بحسب المتنبي يشي بالشعور و الإحساس و يؤثر على الفؤاد فيحدث التطابق بين منازل و منازل .. يقول : لك يا منازل في القلوب منازل.
هنا نجد المقابلة بين ثنائية الأنا المدركة والمنزل الساكن والعامر بالقيم الجمالية والمعنوية الخاصة.
هذه المقدمة أردتها للولوج إلى العمارة اليمنية التقليدية التي تجمع بين مستويات متعددة من تجليات الجمال والآثار المباشرة على من يسكنها أو يرتادها.
كتب الكثيرون عن العمارة التقليدية في اليمن ولامسوا أبعادها الهندسية والوظيفية واستعادوا قراءة مفردات البناء وقابلياتها للديمومة والتصدي لعوامل التعرية .. وفي هذه المقاربة سأحاول الوقوف على بعد آخر في العمارة التقليدية اليمنية يرتبط بقدرة هذه العمارة على ممازجة سلسلة من التفاعلات والأبعاد التي تؤدي إلى تقديم وظيفة نمطية ولكن بصورة تستدعي التوازن سواء مع الوسط المحيط أو بين الإنسان و بيئته فتتحول هذه العمارة إلى (عمارة للقلوب) بحق .. كما تصبح هذه المنازل ( منازل معنوية ) كما ذهب المتنبي .
البيت التقليدي في اليمن التاريخي ليس في نهاية المطاف سوى محل سكن يحقق الوظائف المتعارف عليها في البيوت .. لكنة يتميز بخواص لابأس من الإشارة إلى أبرازها:
تحقق هذه العمارة علاقة نموذجية مع الوسط المحيط لأنها تستمد مواد بنائها من الطبيعة دونما تدخلات تحويلية لهذه المواد كما يحدث في العمارة الحديثة, مواد هذه العمارة هي مزيج من الطين و الأخشاب, وهي مواد تتميز بخصائص فريدة تساعد على تماسك الدار وصعوبة نخرة عبر عوامل التعرية كالرياح والسيول والزلازل وغيرها.. و الشاهد الأكبر على هذه الحقيقة نراه في مدينة شبام بوادي حضرموت التي بنيت منذ 8 قرون ومازالت مسكونة حتى الآن.
كما نرى في صنعاء القديمة وغيرها من المدن التاريخية في اليمن.. إن هذا النوع من التماهي الإبداعي مع الطبيعة جعل تلك المنازل ذات خصائص غير مألوفة في البيوت الجديدة .. فالجدران فيها تتفاعل مع الحرارة والبرودة بطريقة مثالية حتى إنك تستأنس بدفئها في الشتاء و برودتها في الصيف دونما استخدام لمكيفات الهواء التقليدية.
المساحات الداخلية في العمارة التقليدية اليمنية تتسم بالرحابة والقابلية للتكيف الوظيفي الواسع فكل مساحة من هذه المساحات يمكنها أن تتحول ببساطة شديدة إلى وظيفة جديدة .. أي أن غرف النوم يمكنها أن تكون دواوين لاستقبال الضيوف .. وهكذا دواليك المساحات الداخلية تعبر عن فلسفة للفراغ تساعد على الاسترخاء والتأمل فالجدران ليست صادمة .. والرؤية مفتوحة دوما على قابليات متعددة لاستشراف الطبيعة المحيطة .. والممرات واسعة وطويلة والمساحات المخصصة للإفراد مثالية جدا قياسا بما نراه في منازل العصافير العصرية .. أما الكائنات الحية من طيور وغيرها فإنها تجد أنيسا وملاذا في المساحات المحيطة بتلك المنازل مما يخلق حوارا داخليا حميما بين الإنسان والحيوان .. بين الإنسان و الطبيعة.
لا تقف تجليات الجمال و التوازن الوظيفي عند حدود الفراغات ومثالية التفاعل مع الأجواء بل تنساب بعيدا صوب النور والضياء .. فمن سمات هذه العمارة وجود ( القمريات ) وهي عبارة عن زجاج ملون بألوان الطيف يتم وضعة على رؤوس النوافذ والأبواب .. وحالما تشرق الشمس تدخل الإنارة إلى المنزل عاكسة كل ألوان الطيف فيما يذكرنا بالمنشور الضوئي الأوروبي الذي أثبت أن الضياء الذي نراه ليس في نهاية المطاف سوى سلسلة من الألوان .. وهكذا ذهب فنانو المدرسة التأثيرية الفرنسية الذين رسموا كما يرون لا كما يعرفون حيث أن الألوان التي نراها تختلف عن تلك التي قبعت في الذاكرة بوصفها سمة الأشياء والطبيعة.
هذه المقولة العبقرية في الفن تحقق منها اليمانيون وترجموها في منازلهم القديمة التي تعتمر بالضياء الملون والتغيرات المتسمرة على مدار ساعات إشراق الشمس طوال النهار .. وتلك واحدة من ميزات ( عمارة القلوب ) تبقى الإشارة إلى كثرة النوافذ والأبواب باعتبارها الوسيلة المثلى لتأمين دوران الهواء و تنقية المنزل على مدار الساعة .. و تلعب الإرتفاعات المميزة للسقوف والفتحات العلوية في سقف البناء إضافة أخرى في الارتقاء مع الهواء النظيف وفتح المجال واسعا للضياء المنعش بدلا من التقوقع في سراديب الظلام والهواء الصناعي.
مما سبق .. ومن خلال تتبع بعض أبعاد العمارة التقليدية اليمنية يمكننا أن نصل إلى قناعة راسخا بأن تلك المنازل لم تكن أوعية استيعاب تقليدي للمنافع و الضرورات اليومية بل كانت حالة من التخاطر المعنوي و الوجداني مع ساكنيها تختزل أحلامهم و ثقافة التاريخ .. كما تتناغم مع ثقافة العمل الصادرة عن علاقة إيجابية مع البيئة والطبيعة مما يقتضي إعادة تدوير هذه الفكرة على قاعدة التأمل فيما نحن فيه الآن من كآبة و تمزقات من أسبابها بيوت الفئران التي تحاصرنا بالجدران الخرسانية وبالحواجز الرافضة للكائنات الأخرى والضياء و الهواء.
لقد إستعضنا عن التوازن بحياة صناعية أخذتنا بأسباب بهجرها فيما عصفت بأفئدتنا و جعلت قلوبنا عامرة بالخواء بدلا من البهــاء.